mardi 14 juin 2011

هل في الحالة المغربية، نحن في "حالة ثورية"؟ / محمد الهجابي

في خضم مظاهرات "حركة 20 فبراير" بخاصة، ووقفات احتجاج، شاركت في بعضها، ضمن نضالات فئات وقطاعات اجتماعية  بعينها، في غضون الأشهر والأيام الفائتة،
انطلق حوار لي مع صديق حول أسئلة محددة. انطلقنا بداية من الصيرورة المفاجئة والمندفعة كالزلزال للشارع التونسي والمصري. آخر عهد لي في متابعة الشأن التونسي كانت من خلال منظمة "العامل"، و"منظمة الحقيقة" التونسية لحفناوي، ثم لاحقاً مع "التجمع الاشتراكي التقدمي" بزعامة الشابي، فضلاً عن النقاش الذي تفجر داخل الحزب الشيوعي التونسي على عهد محمد حرمل. بعد ذلك طويت الملف التونسي. آخر عهد لي مع التجربة المصرية كانت مع "حركة يناير 1977"، وتجربة الحزب الشيوعي المصري، فحزب التجمع التقدمي وجريدة "الأهالي" إلى أواسط التسعينات من القرن الماضي، ثم طويت الملف المصري. حركة "كفاية" لم تستوفز كامل اهتمامي. ثم حدث ما حدث في شهر يناير 2011 بخاصة، وباقي الشهور اللاحقة، في كل من تونس ومصر.
ومثل صديقي تماماً فتحت لي زاوية بهذه الشبكة العجيبة المسماة ب"الفايسبوك"، لعلي أكتشف ما فاتني من سحرها المدهش الذي هز عروشاً من أساسها، وحتى لا أظل أنعت بالشخص المفارق لوقته.
لن أثير هنا ما دار بيني وبين صديقي من حوار حول الطابع "المفاجئ" للانتفاضتين الشعبيتين العارمتين التونسية والمصرية. أيامها، كنا أدمنّا قنوات التلفزة كما أدمنّا الكلام عنهما. لم يكن شغلنا الشاغل، في نهارنا كما في ليلنا، سوى متابعة تفاصيل ماجريات الوقائع بالقطرين. العين مشدودة إلى الشاشة البارقة والمبقعة بالعرق والدم وصراخ الحناجر، واليد تضغط على القلب بقوة. أياماً مثيرة كانت. كنا نحدس، مع مرور الأيام، أن الانتصار قادم، لكننا، في الآن ذاته، كنا نخشى من أي انتكاسة جديدة. كنا نعلق آمالاً كبيرة على هاتين الانتفاضتين الشعبيتين. علقنا آمالنا في البداية على التونسيين فما خذلونا. وعلقناها بشدة على المصريين _ مصر وما أدراك ما مصر! _ فما خذلونا بدورهم. وآمالنا عريضة، لا تقتصر على "هروب" بنعلي و"تنحي" مبارك. هذه خطوة، حتى وإن كانت خطوة كبيرة؛ تبقى خطوة نحو خطوات جديدة ونوعية وكبيرة، لا بد من أن تتحقق لكي نكون في الطريق السوي. هذا ما نأمله. ثم زادت مساحة هذه الآمال مع تحركات شعبية عربية أخرى، هنا وهناك. رغبتنا، أنا وصديقي، عارمة في أن تفتح الشعوب العربية عهداً جديداً من تاريخها. لا بد من أن تفتحه، نقول. الزمن المتسارع، الديموغرافية، إكراهات العصر، كل هذا لم يعد يسمح بالتأخر عن الموعد. لا بد من تأسيس ديموقراطية قوامها المساواة، والعدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص، والإنصاف، والتسامح. لا بد من تحديث مؤسسات الدولة والمجتمع. لا بد من عقلانية وواقعية في تدبير السياسة والفضاء العمومي. لا بد من علمانية في التفكير والعلائق. بهذا القبيل من الغايات والأهداف فقط، يمكن أن نقطع مع عهد الاستبداد، والأصولية كيفما كان نوعها، والشمولية، والتوتاليتارية، وعبودية الفرد، وشخصنة الحكم وجنونه، وتصنيم الزعامات، وتحنيط المعتقدات أياً يكون مصدرها وجهتها يميناً أو يساراً...
لكن تخوفنا، أنا وصديقي، ما يزال قائماً. ذلك أنه، وهذه قناعتي الشخصية على الأقل، لكي نضمن تغييراً متقدماً لا بد من أن تتحول الانتفاضة إلى ثورة؛ الثورة بمعناها الثقافي والفكري الحداثي. لا ثورة مع الإبقاء على العقليات الرجعية والمحافظة والمتأخرة والمتخلفة والدوغمائية والمتحجرة والمفوتة؛ هذه العقليات تحجر على أي تقدم، وتقيد أي تمدن وتحضر وازدهار حقيقيين، وتعطل أي تماس صحيح مع روح العصر الجديد؛ عصر العلم والديموقراطية. هذا الطراز من العقليات هو ما يثير ت تخوفي أنا.
قلت لصديقي: ألا ترى معي أن ما يعوز هذه الانتفاضات هو أفكار مؤطرة لرجال من قبيل: محمد أركون، وعبد الله العروي، وياسين الحافظ، وإدوارد سعيد، وهشام جعيط، وإلياس مرقص، وعبد الكبير الخطيبي، حتى لا أقول كلود لوفور وكاستورياديس وكلاسترز وغوشيه و...؟
قاطعني صديقني: نحن كبرنا مع هؤلاء الذين أتيت على ذكر بعض من أسمائهم، لكن ماذا بقي فينا من أفكارهم نحن الخارجون إلى "الشارع" في هذه المظاهرات الحاشدة؟ ألا ترى معي إلى أن الكثير منا، نحن"شعب اليسار"(وهل لليسار من شعب؟)، أبناء الجيل الواحد، بات يفاخر ببصمة "الدرهم" على الجبين، ؟ ألا ترى معي كيف صار الواحد منا ينافح الأقران بشدّ الرحال جهة فضاءات "طوق الحمام" أو"خاتم"( نسبة إلى فضاءات روايتي رجاء عالم) ؟ ألا ترى معي إلى كيف تحولت "دقيقة الصمت" إلى بسط للأكف و"قراء ال.."؟ ألا ترى إلى كيف بتنا "نستعيذ من الشيطان"، المندس بيننا(!؟) متى افتتحنا جلسة أو اجتماعاً أو مؤتمراً؟ ألا ترى معي إلى كيف أنه بدّلنا تهييء عقولنا من جهة توسيع مداركنا بوسائط المعرفة الإنسانية والفكر الحداثي لجهة تهييئها لثقافة النميمة، و"الخبّير" في النوادي والمكاتب، والهرولة نحو الكراسي والمناصب والمعدن البارق و"البام" (حزب جديد بالمغرب وما هو بجديد!)، وما شاكل وقارب وحاذى؟ أسألك _ خاطبني صديقي _ من يمتلك منا مكتبة محترمة، أو هي جديرة بالاسم، في شقته أو ڤيلته؟ بماذا إذن سنشارك هؤلاء الشباب اليوم وقت حاجتهم إلينا نحن أهل التجربة، والامتحانات العسيرة، وزمن "زمن الرصاص"؟ بم سنساهم في "تنوير" السبيل نحو أفق العقل والحرية والعدل والإبداع؟ ما التغيير، يا صديقي، إن لم يكن صانعوه وبناته من حملة التنوير والحداثة والخلق؟ هل هرمنا أم عجزنا؟ أم ترانا شخنا وخرفنا؟ أين نحن إذن من هؤلاء المفكرين الذين تلوت علي  أسماء بعضهم؟ لقد زجنا بهم، يا صديقي، في دافن المتاحف "إلى جانب الفأس البرونزية". أقول لك: منّا من لم يعد يتذكر أسماءهم حتى؟!
قلت لصديقي: هذا بالضبط هو ما يجعلني، وأنا أضع نفسي داخل "حركة" شبابنا لا خارجها، تماماً كما وضعت نفسي داخل "حركة" الشباب التونسي والمصري من قبل، أبدي تخوفاً من فراغ لأفق العقل والعقلانية والواقعية لحساب منطق الحماسة والاندفاع والرومانسية؛ وهو منطق كما تعلم لا يحمي "الحركة" من الانزلاقات. حاجتنا ليست إلى ثقافة الانتقام أو الحقد. الحقد، شأنه في ذلك شأن الانتقام، موجه سيئ في السياسة. يعمي البصر والبصيرة، ولا يترك المساحة اللازمة لإعمال التفكير والحكمة في تدبير عقلاني للصراع، وتوفير شروط التقدم.  أنظر إلى الفئات المشكلة لمظاهراتنا ألا تلاحظ هذا التضارب الحاصل في الشعارات بين المُطالب منّا بحق فئوي "خبزي"، وبين المنادي منّا بحرية التعبير والرأي، وبين الداعي إلى محاربة الانتفاع بالمناصب والكراسي، وبين الراغب في حل المؤسسات التمثيلية والتقريرية، وبين الساعي إلى إسقاط النظام (وأي نظام؟).. وبين هذا وذاك، هناك الملتحي منا تيمناً بأهل "الغوار"، وهناك الملتحي منا تيمناً بأهل "الجهاد"، وهناك السافر والمنقب...إلخ.
حتى لا نضيع فرصتنا هاته، يا صديقي، علينا أن نعمم الحوار حول أي مجتمع ودولة ومؤسسات نريد؟ تنقصنا ثقافة القانون. في السابق، شغلنا نضالنا لصالح ثقافة الدعاية والتحريض والتنظيم ضد النظام السياسي القائم، ولم نشغل، بالموازاة، نضالنا لاكتساب ثقافة القانون. أبقينا فراغاً قانونياً مهولاً في ثقافتنا حول تنظيم الدولة والمجتمع والحزب. ومن هذا الفراغ تسللت وتتسلل أفكار الإقصاء والاستبداد والتوتاليتارية بيننا في الأسرة والحزب والنقابة والشارع والجمعية والمدرسة والعمل والبلدية والبرلمان والدولة. هذا الفراغ الثقافي القانوني هو الذي يلزم أن نسده. لا دولة قانون ولا دولة حق من غير تعميم ثقافة القانون داخل الدولة والمجتمع. الفاسدون والمفسدون، في الدولة والمجتمع، يجدون في هذا الفراغ القانوني بغيتهم. يجدونه في الدستور وفي المراسيم واللاواحق، كما يجدونه في ثقافة الفرد والجماعة.  ثقافة القانون من ثقافة التمدن والتحضر. غياب القانون هو شرط حضور سياسة الغاب وثقافته. أي مجتمع ودولة نريد ولأي قانون؟ أي قانون نريد ولأي دولة ومجتمع؟ هذا هو السؤال. نحتاج إلى نقاش وتوافق وتراض متميزين حول هذه القضايا، ونحتاج إلى "مساومة تاريخية" متقدمة حولها. نحتاج إلى ثورة في الذهنيات والسلوكات والعلائق. لا يكفي الغضب ولا الانتفاض، على أهميتهما في أوضاع الاستسلام والامتثال، في القطع مع ثقافة الشمولية والعبودية. لا نريد إصلاحيين، نريد مصلحين. لا نريد ثواراً، نريد ثوريين. لا نريد مقاتلين، نريد مناضلين. لا نريد رعايا، نريد مواطنين. معركة القتال قصيرة. معركة التغيير طويلة. والديموقراطية، بهذا المعنى، هي دمقرطة، أي عملية تجري على الدوام. تحقّقٌ مستمر للديموقراطية. المعركة هذه في حاجة إلى طول نفس. عماد هذا النفس الطويل، وأساسه أيضاً، هو ما نسميه ب"الثقافة الديموقراطية".
قال صديقي: ربما في هذا القبيل من "الحركة"، وبهذا الحجم والسعة، نتعلم في أيام ما لا نتعلمه في شهور وسنوات. أنظر إلى تجربة شباب مصر وتونس. أنظر إلى كيف انطلق النقاش حول الدستور والقانون وتنظيم حياة السياسة والمجتمع، ألا ترى أن ما أشرت إليه هو بالضبط ما تخلل الانتفاض وأعقبه في التجربتين؟ أليس إصرار الشباب على التظاهر السلمي رغم القمع والقتل اللذين واكبا التجربتين هو دليل على أن ثمة ثقافة سياسية جديدة لدى الشباب في انتزاع الحقوق والإقدام على إجراءات التغيير؟
قلت لصديقي: ما يحتاجه الشباب ليس محاباتهم، وكسب ودهم، ومغازلة حماساتهم، مثلما يفعل البعض. علماً أن لا حركة للتغييير حقيقية من دون رومانسية، شرط أن تغتني هذه الرومانسية بالواقعية الصارمة. نحن في سابق تجربتنا حركتنا "ميتات" des mythes، وأحياناً "أساطير" (ليس بمعنى خرافات أو أساطير الأولين)، جعلنا منها أفقاً للتزود الثقافي والانتقال إلى البراكسيس. فأي "ميتات"، بالمقابل، تحرك شبابنا اليوم؟؟ رموز السلفية الدينية، ومن لف لفها، في مشرق الأرض وفي مغربها، ليست ب"ميتات" للغد الديمقراطي، وليس بإمكانها أن تخلق أفكاراً للتحول الديموقراطي، ومثل ذلك يقال على"رموز"نا القائمة المحسوبة على "النادي الديموقراطي" أو "المعارضة". نعاني فراغاً مدقعاً ل"متات" قادرة على  مدنا بالمتاع والزاد في هذه المرحلة العصيبة. كيف إذن نؤمن استمرار نضالنا الطويل من أجل الدمقرطة الدائمة؟ ما نحتاجه جميعاً هو تحويل هذه "اللحظة التاريخية" العربية إلى لحظة تفكير وعمل جماعيين، في الوقت نفسه، من أجل خلق "ميتات"نا لغد ديموقراطي وحداثي حقاً. وتلك مسؤولية مثقفينا الديموقراطيين ومفكرينا الحداثيين وسياسيينا الأصيلين. وهذه مسؤولية باتت اليوم أكثر إلحاحاً وضرورةً.
قال صديقي: معناه لا يمكن أن تحل "حركة الشباب" هاته محل هذا الغياب الكبير لأفكار ورموز "تاريخية" نستنير بها في هذا النضال الطويل. أقول ب"النضال الطويل"، حتى أميزه عن العقل"الانقلابي" و"البوتشي" و"الشعبوي" و"البلانكي" و"اليعقوبي". خاطئ من يسعى إلى تحويل "حركة الشباب" إلى "mythe". لا يمكن أن نثقل كاهل هذه الحركة الناشئة بما لا تتحمله أصلاً. لن تكون هذه الحركة حمالة عجزنا الثقافي وفقرنا الفكري، نحن جيل "الاستقلال" و"اليسار السبعيني". ولن تكون هذه الحركة مقاماً لاستيهاماتنا والتعويض عن خساراتنا. ثمة مسؤولية يجب أن يتحملها جيلنا، ربما كثفتها في هذا السؤال: ما الذي بإمكاننا أن نساهم به إيجابياً _ وأقول إيجابياً _، في ضوء تجربتنا واطلاعنا ومعاناتنا، وبناء على ما عاشه العالم من حولنا من تحولات، ولا سيما ابتداء من أواخر ثمانينات القرن20،  في تجنيب "الحركة" الجارية مزالق الإحباط والإخفاق والانتكاس والتطرف والميوعة والأصولية الظلامية.
قلت لصديقي: أفهم من تعليقك أنك توافقني الرأي في أن ما يعوزنا جميعاً، في شروطنا العيانية الراهنة، هو صهر "حماسة" الشباب ب"حكمة" الكهول والشيوخ، في بوثقة واحدة متفاعلة ومتجادلة ومتشاركة، لكي نصنع من هذا الانصهار ذلكم الخصاص الكبير المشار إليه آنفاً.
قال صديقي: وإذن، لسنا الآن بصدد مرحلة ثورية؟
قلت لصديقي: أنت أدرى بالتعريفين اللذين سبق لنا أن تداولناهما مراراً، فيما كنا نحدد طبيعة "الحالة الثورية"، تعلق الأمر بتعريف لغرامشي أوبتعريف لينين لهذه الحالة. لسنا في المغرب اليوم في "حالة ثورية". إن المرحلة التي نعيشها منذ سنوات هي مرحلة إصلاح.  اتسمت هذه المرحلة بمد وجزر. الجزر في السنوات الأخيرة أمر واضح. لن أفصل القول في الموضوع. يكفي القول إن وضعنا يختلف بقدر مهم عن الوضعين التونسي والمصري. والمطلوب في "الحالة" الراهنة بالمغرب هو الانتقال ب"المرحلة الإصلاحية" هاته إلى وضع متقدم. معالم هذا الوضع المتقدم من الإصلاح يتمثل في دسترة جديدة ومتقدمة للحقلين السياسي والعمومي، وتنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وبشرية تواكب الدستور الجديد. إذا ما تحقق هذا الانتقال الدستوري والتنموي، فنحن إذن نعيش "مرحلة ثورية". أقصد بهذه المرحلة الجديدة طبيعة الأهداف الدستورية والتنموية المحققة، وليس شكل الحكم (ملكي أم جمهوري!). هذا هو المقياس؛ ذلك أن التوتاليتارية قد تطبع الملكية كما الجمهورية. نحن في حاجة إلى إصلاحات جديدة ونوعية، تنقل بلادنا إلى وضع أكثر تميزاً؛ وضع يحقق عدالة ومساواة وحرية متقدمة بخطوات أكثر مما هو حاصل اليوم. الوضع الحالي بات غير قابل للاستمرار على ما هو عليه. وضع ضيق، لا يتسع لديموغرافيتنا، ولا لآمالنا، ولا لسعة حاجياتنا، ولدينامية العالم حولنا. ثم إن فئات مدنية، وغير مدنية حتى، من مجتمعنا نضجت إلى حد لم تعد تسمح بانطلاء حيل من ممارسات سياسية (سياسوية) عليها. أنظر إلى هذا الاتساع لخارطة الإضرابات التي غطت كل مناطق البلاد، حتى أنه لا يكاد يخلو مدشر من المداشر من إشارات لساكنته من الاحتجاج حيال الوضع القائم قبل 20 فبراير وبعده. سقط الخوف! وهذا عنصر أساس في ما تحقق على صعيد الحراك الاجتماعي الشعبي. سقط الخوف! لم يسقط بالكامل، لكننا لم نعد نخاف من المخزن وأذنابه بالعاصمة أو المدشر مثلما كان الحال عليه من قبل. سقط خوفنا من سلطة المخزن بعد أن سكننا لعقود. سقط الخوف! ويلزم أن نسقطه بالكامل. بسقوط الخوف من دواخلنا أولاً، وتجاه رموزه البرانية ثانياً سنكون قد شرعنا حقاً في التأسيس لعتبات (سقوط الخوف هو عتبة ليس إلا، لكنها مهمة) لنظام ومجتمع غير توتاليتارين. ينبغي أن نحفر في أركيولوجيا هذا «الخوف» لكي نفهم دواعيه ومسبباته في الأسرة والمدرسة والشارع والحزب والدولة. يجب أن نسقطه بالكامل. وها قد بدأنا، ويلزم أن نكمل المشوار.
قال صديقي: يجرنا هذا إلى القول إن إسقاط الفساد وإسقاط عناوينه ورموزه هو عملية مرتبطة بإسقاط نظام الخوف.
قلت لصديقي: هو كذلك تماماً. إن الفساد المالي والسياسي يعتاشان من خوفنا. ولقد ترابط اليوم هذان المنحنيان (المال والسياسة) في الفساد أكثر من أي وقت مضى. لا تسود «المافيا» في الاقتصاد والسياسة سوى بزرع عوامل وثقافة الخوف. ألم  يقل أحدهم: «جوّع كلبك اتبعك!»، ألم يجر تكرار قول أرادوه أن يكون قولاً مأثوراً: «خاف من المخزن والنار والبحر!» أو «سلك ولاّ المخزن إحسّن لك!»... وغير ذلك من الأقوال الداعية إلى الاستسلام والخنوع والوصولية والانتهاز والمسكنة، أي الدعاية إلى ثقافة الخوف. إسقاط الفساد هو من إسقاط الخوف، لا شك في الأمر.
قال صديقي: أراك مثالياً في ما تدعو إليه، فهل من الممكن حقاً إسقاط الفساد؟
قلت لصديقي: يا صديقي، علمتني تجربتي البسيطة أن أسعى إلى أن أكون أكثر واقعية، حتى وإن كنت أدعو إلى ما هو مثالي. وهل تحسبني من السذاجة بمكان حتى أعتقد في شعارات تبني مضامينها، كما شكلها، على ما هو «مطلق»؟
إسقاط الفساد هي معركة طويلة، هذه قناعتي. معركة تسير بموازاة، ومحاذاة، وإلى جنب، باقي المعارك من أجل دولة القانون والحق ومجتمع العدالة والمساواة.. معركة طويلة دائمة، بله هي معركة تتجدد على الدوام. سن قوانين الزجر والعقاب في قضايا الفساد هي خطوة أساسية، لكنها تبقى ناقصة من غير تطبيق هذه القوانين، التطبيق العملي بوسائط القانون والعدالة، في حق الفاسدين والمفسدين المتنفذين في الدولة والمجتمع. عدم الإفلات من العقاب، معناه هو تحريك مسطرة القضاء النزيه لتأخذ مجراها الطبيعي القانوني. ولا علاقة لهذه الدعوة بدعوة ما إلى الانتقام. لسنا بصدد الانتقام. لا ننتقم. ما نريده هو تعزيز قوانينا بقوانين في العدل والمساواة. ما نريده هو أن لا يكون أحد، أو يظل أحد أياً كان، خارج القانون؛ القانون الديموقراطي المتواضع عليه من طرف المجتمع عبر التداول العلني للرأي حوله، والتصويت الشعبي الحر عليه. القانون المنبثق منا، ومن داخلنا، عبر نقاشنا وتراضينا وتوافقنا وتصويتنا، وليس بنازل علينا من خارجنا، أو منزّل منه، ومن أي مصدر  سلطة يكن غير سلطة الشعب. قانون ديموقراطي مجتمعي، وتطبيق عادل له، هو ما نريده. وهي معركة طويلة ودائمة أيضاً، ترتبط أشد الارتباط بمدى تطور ثقافتنا الديموقراطية ونمو وعينا الحداثي الدنيوي والمدني. استقلال القضاء وفصل السلط خطوتان هامتان أيضاً على هدى غيرها من خطوات الإصلاح الشامل. تلزمنا بيئة قانون وبيئة حق سليمتين حتى يتقدم العدل وتزدهر المساواة.
قال صديقي: إذن أنت تتفق معي إذا صرحت بأن وضع المرأة يعد العنصر الأساس، وإنما هو حجر الزاوية، في أي تداول يجري حول مسألة المساواة. لن يستقيم الحديث عن المساواة في مجتمعنا من غير إعادة النظر في وضع المرأة في القوانين والمجتمع. القضية ليست أخلاقية، ولا دينية. القضية بالأحرى تهم البشر في أن يتساووا أمام القانون باعتبار حقيقة نوعهم. لكن، قبل هذا وذاك، وجب اعتبار ذواتهم الفردية بها هي ذوات تقوم على الحق في الحياة والكرامة والحرية.
قلت لصديقي: اعتبار مسألة المرأة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية بمثابة المعيار في مدى اعتماد قيم الكرامة والحرية والحق في الحياة  موجهات أساس في التعامل والديموقراطية والعدالة. هذا هو ما يميز التغيير الحقيقي من عدمه.
وفي السياسة كما في الاجتماع لا تفيد قضية المساواة في شيء إن لم تتحقق على صعد المناصفة في التمثيل والتعامل وسلطة القرار. المناصفة، هذا هو شعار المرحلة في المسألة النسائية، مما لا يعني غياب التداول في ضروب مماثلة تقربنا، بهذا الشكل أو ذاك، بهذا الأسلوب أو ذاك، من العدل والمساواة بين المرأة والرجل، أو تضعنا على سكتهما.
قال صديقي: الأمر يجري أيضاً على الشباب، لا؟
قلت لصديقي: إلى حد ما يبدو الموضوع كذلك، لكنه ليس كذلك تماماً. هنا، مسألة المرأة تشكل مدخلاً أساسياً، بحجم القطائع الكبرى التاريخية ذات الميسم الفارز بين التأخر والتقدم، في عملية التغيير. ولقد حان الأوان للدفع بالمسألة النسائية، في خضم هذه الشروط المغربية والعربية والمعاصرة، لتحتل موقع الريادة في أي عملية إصلاح جذري. ومن المؤكد أن المسألة ليست محض إجراءات تقنية وسياسية حتى، وإنما هي في المقام الأول هي مسألة ثقافة وتحضر ومدنية. هذه الخلفية الثقافية أو القاع الفكري هو ما نعاني من غيابه الكبير في حركة التغيير العربي من الخليج إلى المحيط، وعند المرأة والرجل على حد سواء. أنظر إلى كيفيات مشاركة المرأة العربية في التجربة اليمنية والبحرانية على سبيل المثال. أنظر إلى هذا الفصل في طرائق التظاهر؟!! أين نحن من المساواة والحرية؟
على الديموقراطيين العمل على اهتبال هذه المحطة التاريخية في إحداث خلخلة في بنية التفكير والسلوك تجاه المرأة. ولدى قسم واسع من النساء استعداد للتجاوب مع الشعارات الديموقراطية ذات المنحى المساواتي إن على مستوى الدسترة والقانون أو على مستوى الممارسة العملية في الشارع والفضاءات المدنية والمؤسساتية. هذه فرصتنا جميعاً. يجب ابتداع صيغ وإجراءات حقوقية ومؤسساتية تضمن حق المساواة في المواطنة، المواطنة بما هي حق دستوري في المحل الأول.
قال صديقي: أصادقك القول. لقد خلقت «حركة 20 فبراير» لحظة فارقة في المشهد السياسي المغربي، تصادياً مع نداءات التغيير التي صدعت بها جماهير الشباب مشرقاً ومغرباً. وهذه اللحظة التاريخية، بشمولها لمعظم البلاد العربية، هي لحظة استثنائية حقاً بالنظر لسياقها وللشعارات التي رفعتها. ودون محاباة لدور الشباب في ما يجري، فإن المطلوب هو فهم طبيعة المرحلة التي نحن بصددها حتى نتمكن من تعزيز ما تحقق  بإنجازات جديدة ونوعية تكون في مستوى هذا الاستثناء التاريخي. نحن في المغرب لا ننطلق من الصفر. ثمة في «الحالة المغربية» العيانية ما يجعلنا نطمح إلى المزيد من المكتسبات الديموقراطية ذات القاع الحداثي تماماً؛ مكتسبات من شأنها أن تجنب الدولة والمجتمع أي منحى ديكتاتوري وتوتاليتاري تحت أي يافطة أو مسمى يكن. لا ديكتاتورية بروليتارية اشتراكية كانت ولا ديكتاتورية إسلامية (خوانجية) أو "مخزنية". لا توتاليتارية ولا استبداد مهما تكن الايديولوجية التي بها يتوسلان. لا حياة سياسية ومجتمعية مفروضة فرضاً بحد السيف أو البندقية. لا ديكتاتورية. بل لا شمولية أو توتاليتارية. هذا هو الهدف الذي ينبغي أن لا يضيع عن خط تفكيرنا ونحن نخوض معركة التغيير الدستوري والقانوني والثقافي.     
الذي دفع بي إلى هذا الكلام هو شعور تولد لدي من الكيفية التي يتم التعاطي بها مع شباب «حركة 20 فبراير» من طرف بعض منا، نحن الذين كبرنا في "اليسار". ولكأننا صرنا نثقل كاهل هؤلاء الشباب الذين كنا في تمام سنهم، بهذا القدر أو ذاك، قبل أربعة عقود أو يزيد من الزمن، بشعارات هي بنت ثقافة تبين أنها كانت تفتقد إلى القاعدة الديموقراطية المؤسساتية والكونية. ولنا في تجارب ما كنا نطلق عليه «المعسكر الاشتراكي» أو في تجارب الفاشية والانقلابية والأفغانية، ما يؤكد أن لا مكان لدولة ومجتمع متوازنين وعقلانيين وواقعيين في غياب الديوقراطية المبنية على "المجال العام" حيث يكون للرأي العام، وللاقتراع الشعبي الحر والنزيه، الدور الرئيس في تحديد السياسات والقرارات المصيرية والموجهة.
قلت لصديقي: مؤدى حديثك أنه من الخطإ القاتل استبدال "مخزن" أصفر ب"مخزن" أحمر. إن "المخزنان" معاً منبوذان. لا يصلحان.
والمطلوب هو إجراء مصالحة مع شبابنا نحن الذين تجاوزنا الساعة سن الخمسين. يلزم أن نستمع إليهم بما هم عليه اليوم وليس كما كنا عليه نحن بالأمس. والمفترض أن نكون أجرينا تقويماً نقدياً لتجربتنا نحن حتى نستطيع أن نمدهم بما هم في حاجة إليه الساعة. المفترض أن نكون جريئين في نقدنا لتجربتنا بعد ما عايشناه من تحولات كبرى همت العالم بأسره. ما الذي استخلصناه من سقوط الأنظمة التوتاليتارية بأروبا الشرقية؟ كيف ننظر إلى "الديموقراطيات الغربية" بمختلف تلاوينها، شمالاً وغرباً وجنوباً؟ ما الذي استوعبناه من دروس تجارب أنظمة أعدمت المنطق الديموقراطي في التعامل مع شعوبها (الفيتنام، الكومبودج، ليبيا، كوبا..إلخ)؟... أسئلة كثيرة من المفروض أن نكون قد أعملنا التفكير فيها، حتى تستقيم مشاركتنا في إنجاح التجربة الجديدة. ليس بمحاباة أوجه من شباب «حركة 20 فبراير»، أو بمغازلة أقسام منها، يمكن توفير شروط الفوز. تلاقح التفكير الجدي والنقدي للجيل السابق مع عنفوان وشجاعة الجيل الحالي هو الكفيل بتقدم معركتنا من أجل الديمقراطية والمساواة والعدالة ومحاربة الاستبداد والفساد. وإذ نكاد نجمع على أن هذه اللحظة هي "لحظة الشباب"، فإن ما لا يجوز هو تكرار أخطاء التجارب السالفة. إن "جنون الحكم" المرضي يسكن الكثير منا، والحلم ب"الكرسي"، كيفما صادف واتفق، يساور العديد منا؟!     

القنيطرة في 15 ماي 2011

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire